تحية إلى فرقة الحمائم البيض تأثّرا بحفلها الذي أقامته بدار بن عبد اللّه يوم 8سبتمبر 2009
لم يكونوا أربعة فقط...
معهم على الرّكح كانت الاتهم كائنات تحسّ- تنطق- تبكي –تغنّي - تتأوّه – ترقص و معهم على الرّكح كانت أرواح خيّرة كثيرة: حمّادي العجيمي- فرانز فانون –محمود درويش – منوّر صمادح – شهداء من قفصة و الرديّف و فلسطين و اليابان ...
و معهم في القاعة ثلّة عاشقين كانوا في بداية الحفل نوعين: بعضهم منهم و بعضهم جمهور, و غدوا و الحفل يحفل صنفا واحدا : جزءا منهم – أهلهم – اخوتهم – أبناءهم- طيورا على شجرتهم العتيقة الصّلدة المشرّشة في الزمن زاهية الأغصان و الأوراق المعرّشة نحو اللأفق البهيّ.
منذ زمن انقطعت, أو كدت , عن حضور سهرات الموسيقى و الغناء الشبابية ...
حتّى حاصرتني لينا من كلّ الجهات و أفهمتني برفق أنّني أخسر من عمري شيئا يمكن أن أملأه بما هو أحلى و أبهى و أفضل و أنفع.
كنت أعرف منتذ زمن موسيقى و غناء " الحمائم البيض"... لكنّني لم أحضر لهم عرضا أو هكذا يخيّل لي ... فقد أكون حضرت مطلع الثمانينات...
في البدء كنت محتارا و محرجا: ماذا أفعل مع شبّان و شابّات كالعسل أنا من غزا الشّيب رأسي؟ و عندما رأيتهم ضحكت من نفسي: ها أنّهم مثلي أو يكادون: فعلت بهم الأّيّام ما فعلت هم أيضا... و هاهي الفرقة هي الفرقة بأعمدتها الأصليّة العتيقة.
و منذ انطلق الحفل غمرني الانبهار:
مازال في هذا الزمن الحزين المنهك من يعرف "فانون"! و مازال هنا من يهمّه أن يذكر "فانون", ومن يلهمه "فانون"!
و شدا العود و الكمنجة و الناي و الكلمبري ,و تراقصت كلمات من نور فلم أعد أدري بأيّ عضو أرى و بأيّ عضو أسمع و احتضنتني كريش حمامة تحضن فرخها موسيقى راوحت بين التأنّي و بين سرعة الوتائر. و رأيت الآلات تتغامز- تتهامس – تتناجى – تواسي بعضها بعضا- تتقاسم الأدوار – تتناغم – تكاد تقفز. و معها سمعت الحروف الضوئية تتشكّل كلمات مفاتيح : الإنسان – الثائر , القارّات , الأصوات الصفراء و السوداء, الجيش الفرنسي , حركة العالم الثالث , الأحلام هي أيضا عصيّة الإرادة , اللّعنة و الملعونون , العصاب, أن نكافح أو أن نفنى , الاستعمار , هل ستتعافى ؟, الحرية , علامة السؤال...
و من الموسيقى إلى الكلمات الضوئية إلى حركات العازفين الأربعة إلى رقص الآلات إلى سحر الأضواء و الديكور إلى الجمهور الذي انصهر في العرض لم أعد أعرف أين أنا –من أنا , حلّقت جدّفت في البحر بعيدا , تداخلت الأزمان فيّ, تقاطعت دروبي , ركبت مشاعري- أفكاري – هلوساتي بعضها بعضا و قادتني حركات الفكر – الموسيقى – النغم –وجه "فانون" إلى صحاري -خلاء-صفاء-قلق- حزن- فرح راقص – تمرّد – تعب – مناجاة – تسآل ,إلى مدن غربية فيها " جون بول سارتر" و "حاملو الحقائب" , إلى جبال الأوراس يينع فيها الربيع بعد برد بارد, إلى قيتارة " جيمي هندريكس" تتساقط من خيوطها قنابل غادرة تطغى على النشيد الوطني " لليانكي" إلى موسيقى الجاز حيث يخيّم التناغم و التآخي و تزول الحدود و القيود و ينبري العازفون يتناجون – يتناقشون – يتواصلون بعزفهم دون سابق إعداد و لا تنسيق في لحظات إشراق و متعة كم أبدع في وصفها "مز مزروو"...
ولم يكن "فانون" لا حيث ولد, ولا حيث عاش , ولا حيث مات , ولا حيث دفن , ولا حيث نقلت رفاته : كان بيننا و فينا , رأيته يتسلّل من بين أوتار العود و يلبس هو أيضا قميصا قطنيا أسود عليه حمامة بيضاء و اسم الفرقة, ثمّ رأيته بعد ذلك يرقص – يضحك – يبسم – يتساءل.
لقد عذّبتموني أيّها الأولاد, عذّبتموني عذابا عذبا!
في كياني تراقصت كلمات – مفاهيم – صور – نغمات فأحسستني غرّا بين يدي أمّي تهدهدني – عنفوانا يتمرّد يعيد صياغة العالم و يرنو أن يكون ك" غيفارا", يعشق ما كتبته "روزا لكسمبورغ", يودّ لو كان ولد في زمن أبكر و لم يضع عنه شرف حرب التحرير , يتشظّى فهو هناك في الفياتنام, وهو كذلك في فلسطين و ظفار و في أمريكا اللّاتينية مع حملة الشعر و المنشور و السلاح ...
لقد سمعت في موسيقاكم بل تشرّبت منها أنينا - تيها- قطرات ماء – سفرا وراء فكرة – و سرحت معها حيث الظلّ ظلاّ, وحيث لا يتناقض الأبيض و الأسود , وحيث الثلوج هناك في جبال "جرجرا"... سمعتكم تصرخون كما صرخوا ...أحسستكم تنتشون و تمرحون ...
تلاعبتم بي : حيرة فاطمئنان فتلاش , فتركيز, فأنين ,فارتياح, فركض , فهدوء , فرفض..
ملعونون في الأرض أنتم لكنّكم قادرون على الفرح : تفرحون و ترشّون الفرح من حولكم نورا يعيد الحياة و يديمها !
بعد "فانون" أصبحت كالمجذوب –كالصوّفي – كالمنوّم :
رأيت حمّادي العجيمي حيّيا خفرا يبسم و لا يكاد ينبس بشفة حتّى خلت أنّني لو نزلت حبنها إلى شارع باريس فإنّني لا شكّ ملاقيه ... و أطلّ عليّ من الذاكرة منوّر صمادح هذا الجرح الذي سيظلّ ينزف فينا : أما م " ابن رشيق " التقينا و إلى حانة مجاورة لحديقة برشلونة مضينا ك هو و المختار اللّغماني و محمّد لحبيب الزنّاد و عمّار منصور و منصف الوهايبي ... آه كم أنا غبيّ! نسيت مرّة أخرى أن أجمّع قصاصات الأوراق التي أعطاناها النادل لمسح الأصابع فأضحت قصائد و رسوما و كلمات ...
عرضكم أيّها الحمائم البيض كان لحظات ... غير أنّها كانت لحظات بعمق الزمن – مسافات لا حدّ لها –رحبا رحبا كالأفق الأزليّ- نسمات تدغدغ جبال بلادي – وعرها – و سهلها ...
و مضيتم تغنّون الكلمات تتكلّمون – تتأوّهون - تهدرون ...
و بمعزوفتكم عن الشغاّلين اجترحتم للفرح مقاما حتّى و الكدح يدمي و الجهد يضني و العسف يؤذي.
لقد طلب الورد فأعطيتموه وردا و أكثر ...و رأيت طيورا كثيرة جميلة و رقيقة بيضاء و ملوّنة تستجير بجذعكم ... رأيت الموسيقى و السرور و البهجة و الوفاء تستظلّ بكم – تسكنكم و تشعّ من سواد قمصانكم يغدو ألوانا ز اهية تحلم .
بعد ذلك رأيتكم تغادرون كلّ شيء – تعزفون لهواكم لفرحتكم – لا تعودون تدركون أين أنتم .
كيف استطعتم أن ترقصوا و تنشدوا و تغنّوا و تشدّونا و ثيقا إليكم طوال الوقت و أنتم واقفون لا تجلسون و لا ترتاحون؟!
إنّكم جذوع لا جوفاء و لا عوجاء: أنتم زيتون هذا البلد العتيق الدائم الأبديّ !
الصادق بن مهني
14سبتمبر 2009
الصادق بن مهني
14سبتمبر 2009
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire