ما أن علمت بخبر اشتراك لجنة تنظيم أيام قرطاج
السينمائية و المنظمة العالمية لمقاومة
التعذيب في تنظيم عروض أفلام داخل أسوار بعض السجون حتى سكنتني الرغبة في حضور بعضها أو على الأقلّ أحدها . بحثت في دواخلي عن دوافع
هكذا رغبة . فاختلطت عليّ الأمور.أهو الفضول و التوق لمعرفة عالم كثيرا ما سمعت
عنه منذ نعومة أظافري و تعددت الروايات بشأنه .
فكثيرا ماكان
والدي يأخذنا في جولات في مناطق مختلفة من البلاد و عادة ماكان المطاف ينتهي بنا أمام أحد سجونها التي قضى فيها بعضا من فترة حبسه
كسجون القصرين و برج الرومي و المنتقل إلى جوار ربه سجن 9 افريل بالعاصمة أو أيّ
سجن من سجون هذه الأرض الطيبة كسجن مرناق أو سجن المسعدين أو سجن النساء بمنوية و
الذي كنّا ما إن نمرّ بجواره حتى يذكّرني والدي بأنّه كان قصرا للأميرات قبل أن
يصبح سجنا .
أو لعلّه كرّاس خطّت عليه بعض الكلمات تطمئنني على حال
صديق قادته الأقدار إلى سجن المرناقية ذات خريف من أيام الجمر بتهمة التوق الى الحرية و حملت كلّ صفحة منه طابع السجن . أو ربما هي تلك الصور التي جالت فايسبوك
مبرزة سجناء مجموعة أفاق اليسارية فترة
حبسهم . أو هو العالم الذي صوّره فتحي بالحاج يحيى في كتابه الحبس كذّاب و الحيّ
يروّح . أو هي الرغبة في الاطلاع على حال وظروف السجناء بعد
أن تعدّدت الروايات حولها و تواترت أخبار حوادث التعذيب و حالات الموت المشبوهة في
السجون في الأشهر الأخيرة . و لعلّها
الرغبة في كسر حواجز السجون و المساهمة و لو بقسط صغير في فتح بعض نوافذ الأمل لمن
وجدوا أنفسهم وراء الأسوار العالية و
الرغبة في نشر الثقافة كطريقة مقاومة لموجة الظلام الذي أسدل بستاره على البلاد و
حلّ حتى بسجونها . لا أعرف بالضبط مالذي
دفعني إلى سجن المرناقية ذاك الصباح و
لكنّني أعتقد أنّها كلّ الأسباب التي ذكرت مجتمعة.
على الطريق مرّ شريط زياراتي السابقة إلى ذلك المكان بذهني . زيارات لم أتمكّن من
خلالها من تجاوز تلك الأسوار العالية المحيطة بمختلف الأجنحة التي سمعت عنها
الكثير .و كانت كلّها في إطار استقبال أشخاص أتمّوا فترة حبسهم. ما عدى زيارة واحدة وجدت نفسي بعدها
داخل أسوار السجن و في مكتب المدير بعد أن تمّ إرغامي على الدخول لأنّ إحدى
مرافقاتي كانت ودون علمي تقوم بتصوير المكان. و كان والدي طوال الطريق
يروي طرائف عاشها في السجون.
و ما إن وصلنا الطريق الفرعية المؤدية إلى حيث الأسوار العملاقة و أبراج المراقبة حتى طالعتنا أفواج من العائلات تسلك الطريق على
القدمين حاملة القفاف متحدية البرد الشديد
و الأمطار الغزيرة . كان أغلب الماشين من النساء. اختلفت أعمارهنّ و توّحد هدفهنّ
: زيارة قريب إلى القلب سكن خلف الأسوار العالية . و ما إن وصلنا الحاجز الأمني
الأوّل حتى قام الحرس بتفتيش السيارة تفتيشا دقيقا و سألوا عن سبب وجودنا رغم إعلامنا
بالأمر مسبقا و رغم أنّنا كنّا على موعد مع إدارة السجن. و أخذت بطاقات الهوية و
تثّبتوا من وجود أسمائنا على القائمات و كذلك كان الأمر في حاجز آخر. كان بعض
الحراس يغالبون أ نفسهم فيرسمون ابتسامة
بينما علت القسوة ملامح آخرين و علا صراخهم و اشتدّت لهجتهم.
وبعد تجاوز
مختلف الحواجز ركنّا السيارة في مأوى يبعد بضع أمتار عن المدخل الرئيسي للسجن.ودخلنا
إلى قاعة الانتظار لتتكرّر نفس الأسئلة و
لتطلب بطاقات الهوية و ليتمّ تفتيشنا من جديد و لتسحب منّا هواتفنا و بعد القيام بمختلف
الإجراءات انتظرنا حتى جاء من كلّفوا
بمصاحبتنا .قاعة انتظار سبق أن كان لي
فيها حوار مع حارس أو سجّان أخرج لي كتبه التي يقرؤها و مضى يحدّثني عن البلاد و
العباد. قادونا من قاعة الانتظار إلى ساحة تذكّرتها. فقبالتي
لمحت الإدارة حيث استقبلني مدير السجن أو
نائبه خلال الحادثة التي ذكرت آنفا و
طالعتني قربها المصحة .
و استغربت نعم استغربت لنظافة المكان و لدرجة العناية
بحديقته و بأسواره البيضاء التي زينتها رسوم مختلفة و زينها علم تونس حتى أنّني لم
أتمالك نفسي و سألت والدي هل قاموا بتنظيف المكان لعلمهم بزيارتنا ؟ واصلنا الطريق عبر مختلف الأجنحة و قابلنا في
طريقنا مساجين و حرس و خضعنا إلى عدّة تفتيشات أخرى قبل أن نصل الجناح الذي تقرّر عرض
الفيلم فيه و قبل دخول قاعة العرض عرّجنا على مكتبة السجن حيث استقبلنا موّظف بشوش
ما إن راني حتى قال : أعرفك أنت متعوّدة
على زيارتنا و مضى يطلعنا على مختلف الكتب
التي تحتويها المكتبة و طريقة استعارة السجناء لها . والتي تتمّ إما عبر تعمير
استمارة بعد الاطّلاع على قائمة أو باختيار كتب و مجلات توضع في عربة يمرّ بها حارس عبر مختلف الأجنحة ليختار السجناء ما يشاءون منها. و لكن ما هالني
بعد الاطلاّع عليها هو نوعيتها فغالبها ممّا تعوّدنا على تسميته بالكتب الدينية
الصفراء الواعدة بالجنة المتوّعدة بجهنّم. و هنا تدافعت الأسئلة في ذهني و كدت
أطرحها لولا تذكّري لسبب زيارتي للسجن.
واصلنا السير و
اعترضنا نائب مدير السجن الذي سلّم عليّ ورحّب بنا و أعاد عليّ جملة من سبقه.
دخلنا القاعة حيث وضعت على الحائط شاشة عملاقة و جلس السجناء على كراس منتظرين
بداية العرض.و ابتسموا لرؤيانا . وحيّاني بعضهم بعد أن عرفوني فمنهم من هو من حيث أنا.
انتظرنا قدوم المدير و استغلّيت الفرصة لزيارة قاعة محاذية عرضت فيها أعمال فنية للمساجين
و شدتني لوحة لخّصت أحداث الثورة فهذا رأس بن علي و هناك خطت كلمة فايسبوك يجاورها
نص يتحدث فيه كاتبه عن سماعه خبر رحيل بن علي من تونس دون أن يتمكّن من مواكبة ما
حدث .
وتمّ إطفاء الأضواء و بدأ العرض فصمت الجميع و غرقنا في عالم السينما
. نعم صمت الجميع و كان التركيز منصبّا على الشاشة . و رغم أنّ الفيلم مغربي و رغم
صعوبة اللهجة إلا أنّ الجميع ركّزوا,السجناء و السجانون ,على حدّ السواء. و كانت بين
الحين و الأخر تتعالى ضحكة من هنا أو من هناك لطرافة مشهد أو لتلميح لحبّ أو لجسد.
و استمرّ العرض لساعة و نصف كنت خلالها أراقب سكنات المساجين و أحاول معرفة
ردود فعلهم مع كلّ مشهد أو حوار بين شخصيات الفيلم . كانت القاعة باردة عندما
دخلناها و لكنّ شيئا من الدفء غمرني و أن
أرى تماهي المساجين مع الفيلم و أستمع إلى تعليقات بعض الحرّاس , و تهت في أفكاري قبل أن أنتبه
لاشتعال الأضواء و بداية نقاش الفيلم .
كان المساجين مترددين في البداية و لازموا
الصمت قبل أن يحدّثهم والدي عن السينما ودوره في فتح نوافذ على العالم و تمكينهم من الفر و هم وراء الجدران
السميكة فيبدأ بعضهم بالتعبير عن إعجابهم
به و بمبادرة عرضه . و بدأت تعليقات أخرى نقش بعضها بذهني فهنا سجين يطلب عرض
الفيلم الجزائري
Madame Courage
وهناك سجين يحدّثنا عن الديمقراطية:"نعم هي ممارسة يومية
يجب أن نعيشها في كل لحظة و مكان" و هنا انهمرت دموعي.و سجين يتعمّق في قصة
الفيلم و يسأل عن جزئيات استعصى عليه فهمها .
و مازح المسؤول عن الأنشطة الثقافية و الاجتماعية
السجناء طالبا منهم دفع ثمن العرض و
مقترحا علينا إعادة عروض أخرى مع تغير نوعية الأفلام فهو يرى أنّ المساجين في حاجة
الى افلام كوميدية تخرجهم من سجنهم و من واقعهم لا أفلام واقعية تغرقهم فيه ؟
؟؟؟
و تواصل النقاش لدقائق قبل أن يبدأ المساجين في المغادرة وهم يناقشون الفيلم و دعانا المسؤولون إلى
فطور أعدّوه لنا لكنّنا رفضناه لالتزامات أخرى
. ونحن في طريق الخروج من السجن تواصل
الحديث و النقاش مع الإداريين و زرنا ورشة يصنع فيها بعض السجناء حليا فضية و
دخلنا إلى مكتب المدير الذي طلب منا إعادة هذه النوعية من العروض وعدنا بتوفير
الظروف الملائمة لها.
و استرجعنا أغراضنا و خرجنا .خرجت و قد تزايد فضولي و
تضاعفت الأسئلة في دماغي: هل ستواصل حقّا
هذه المبادرات و هل سنتمكّن من ترسيخ هكذا أنشطة و ممارسات ؟ هل ستواصل بوادر بعض
انفتاح من إدارات السجون؟ ماهي الحقيقة ؟ و
ماهو المصطنع فيما عشناه فأغلب الروايات التي سمعتها صوّرت واقعا آخر؟ هل تصرّفوا معنا كما يتصرّف أغلب الإداريين عندما يأتيهم خبر زيارة مسؤول ما فنّظفوا المكان
و ارتدوا ابتسامات ؟ و كيف الوصول إلى الحقيقة مادامت أغلب الزيارات معلومة من إدارات
السجون ؟ هل ساهمنا حقّا في إهداء بعض من
الأمل إلى من يقبعون هناك ؟ هل ستواصل هكذا تجارب؟