سألني – وهو التجمّعي القاعدي الذي اعتاد الاستجابة غريزيا لكلّ حملات المراقبة والمتابعة واليقظة –عن موقفي بخصوص الحيلولة دون التجمعيين ودون التقدّم إلى انتخابات المجلس التأسيسيّ.
ودون أن أفكّر أو أحسب أو أناور أو أتكتك أجبته على الفور : "من الطبيعي جدّا أن يحال دون المسؤولين عمّا عاشته بلادنا طوال عشريات الاستقلال من قمع ونهب وفساد واستغلال بشع وتعطيل للتنمية ولانطلاقة البلاد نحو سماوات جديدة لا تعنيهم-.من الطبيعي جدّا أن تحرص الثورة على أن لا يكبّلها من اعتادوا تكبيل الشعب ومنع وثبه بل وحتّى توثّبه... ثمّ إن مشروع القرار لا يمنع التجمعيين كلّهم بل بعضهم من الترشّح ولا يمنع أيّا منهم من حقّ الانتخاب... الذين سيمنعون هم من كانوا فاعلين منهم ومن كان لهم شأن في اتّخاذ القرار وفي التنفيذ على الميدان... ولا أعتقد أن أحدا سيدافع عن فاسدين وماكرين وطمّاعين وانتهازيين ومعتذين..." وسألني آخر –وقد اتّضح لي من كلامه أنّه كان من شباب التجمّع النشيطين- إن كان من المشروع أن يحرم هو الشاب المتعلّم من إعادة بناء ذاته ومن الإسهام في بناء بلدنا الجديد بما ييسّر تجاوز خطايا ارتكبها حزب انتمى إليه كغالبية المنتمين عن لاوعي أو لاإرادة أو عنوة أو إرثا أو طبعا أو تطبّعا أو لخوف أو رجاء... فأجبته أن المنع حسب ما أفهم لا يطال جميع من كانت لهم بطاقة انخراط في التجمّع ولا حتى جميع من كانوا ناشطين ضمن صفوفه بل هو يطال كل من ثبت عليهم فساد وإفساد وتزوير انتخابات وتغليط ومغالطة واستكراش وغنم غير مشروع... فأضاف : "ألا يعني ذلك أن المنع يجب أن يتوقّف على المسؤولين في الديوان السياسي واللجنة المركزية ولجان التنسيق وكفى"... أجبته دون أن أفكّر أو أحلّل : "حدث أن ناقشت احتمال المنع مع أناس من آفاق غير العاصمة، فقال لي أحدهم : لا يهمّني المسؤولون الكبار بقدر ما يهمّني رئيس الشعبة وبعض أعضائها والعمدة والمتنفذون المحليون... فمنهم من لهف المال من الناس مقابل تمكينهم من بطاقة علاج مجاني، ومنهم من اغتصب بنات الفقراء مقابل فرصة تشغيل، وكلّهم زوّروا الانتخابات والإحصاءات والمعطيات.. ألا تعلم أن فرص التشغيل كانت تباع وأن المساعدات الاجتماعية كانت سلعة وأن الرّخص بأنواعها كانت محلّ سمسرة واستغلال، وأن الناس كانوا يسامون العذاب بتهم المعارضة وبالادّعاء بأنّ ليس منّا فهو ضدّنا، وأنّ كثيرين حرموا من العمل بل من العيش وعذّبوا وحتّى سجنوا لمجرّد عدم رضاء تجمّعي من شعبة أو خديم عمدة أو عون مرتش عنهم ؟!"
ولأنّ لي عطفا على الاثنين، ولأنّني تعوّدت أن أراجع ليلا مع عملته وقلته نهارا فلقد قضّيت ليلتين أفكّر في ما يسمّيه التجمعيّون وأشباه الصحافيين والجاذبون إلى الوراء وأعداء الثورة إقصاء... بل ويضيفون بشأنه أنه إقصاء من الانتخابات...
في ما أنّ ما يسمّونه إقصاء ليس في الواقع إلاّ حيلولة بين بعض الفاسدين-سياسيا واقتصاديا وأخلاقيا ومدنيا- وبين أن يترشّحوا لمجلس غايته الأولى أن يقطع نهائيا مع ممارسات هم المسؤولون عنها مع قائدهم وزعيمهم وصانع مجدهم المتهاوي.
وتسارعت الأحداث : فاعلون في الانتقال الديمقراطي يفضّلون أن ينخرط تجمّعيون في الانتخابات درءا لانضمامهم إلى جحافل الرجعيين والظلاميين... تجمّعيون تعرفهم الصفحات الأولى لجرائد ومجلات بن علي –عبد الله ونشرات الأخبار الإذاعية والتلفزية يحتجون على "إقصائهم" هم و"ثلاثة ملايين تجمّعي" من الانتخابات لا أدري كيف حسبوا عددهم ثم من أقصاهم من الانتخابات كمنتخبين، أم أنّهم كلّهم مترشّحون؟!... تجمّعيون يقولون إنّهم ليسوا تجمّعيين بل دستوريون ويستخرجون رفات بورقيبة من قبره المغوليّ... مسؤولون سابقون يغلظون الأيمان أنّهم لم يكونوا يوما مسؤولين بل مجرّد "صبّابة ماء على يدين" في أحسن الأحوال... بعض من كنستهم ثورة الشباب يباركونها وينمّقون الكلام ليجعلوا منها ثورتهم المجيدة وتغييرهم المبارك ويطلبون بل يطالبون أن تترك بين أيديهم ليأخذوها إلى برّ الأمان ويتكلّمون –واعين أو من لاوعيهم- عن "رجوع المياه إلى مجاريها" " الأمور إلى سابق عهدها"... نهضة لم تكن النهضة أبدا غرضها، تفتح أبوابها عريضة لكلّ من هبّ ودبّ حتّى متى كان دمه وجلده وعقله وقلبه في لون البنفسج، وبنفسجيون لم يكن الخيار الفكري والانتماء العقائدي ولا الفعل السياسي همهم بل الاستحواذ والتنفّذ والتكسّب غير الحلال يبكون الحداثة والرخاء وازدهار الاقتصاد ويستهجنون الفوضى وكأنّهم ليسوا محرّكيها وصانعيها والمؤملين منها، ويدّعون الوسطية والعقلانية ويتباكون في جوقات تطرح شعارات ليست منهم وليسوا منها، ويهدّدون بالويل والثبور...
وصاحبي
الجزع على البلد والثورة يهاتفني مرّة بعد مرّة : "ما موقفك ؟ ما الذي يمكن أن نفعله ؟ إلى أين نمضي ؟ وكيف نكون أوفياء للشهداء والثورة ولا نحيد على مبادئ عشناها رغم الحيف وهي ونحن سواء ؟"
صحيح أن لا أحد يمكنه أن يدّعي أنّ هذه الثورة هي من صنعه هو وحده كلّها أو جلّها ! وصحيح أنّ كل الشعب التونسي بكلّ طبقاته وفئاته ومختلف ألوان طيفه قد ساهم في هذه الثورة : البعض بيده ودمائه والبعض بفكره ولسانه وبصموده ومعاناته، والبعض بقلبه ودعائه، والآخرون برجائهم وتمنّيهم...
وقد يفاجئنا التاريخ يوما بأن يظهر لنا أنّ نجاح الثورة ليس نتاج تضافر الفعل الشبابي مع نضوج الثمرة وتهاويها فحسب بل ساعدت عليه قوى أخرى خفيّة قد يكون بعضها حتّى من داخل النظام البائد والحكم الفاسد.
غير أن هذا لا يغفر لأولاد التجمّع وبناته عدم اصطفافهم مع الحراك الثوري وإن في ربع الساعة الأخير...
والتّاريخ لن ينسى أن نوّابهم ومستشاريهم قد حرصوا على شرب الكأس حتّى الثمالة وأنّهم تلقّوا منحهم حتّى المليم الأخير بل وأن بعضهم قد قاضى الدّولة سعيا إلى الحصول على المزيد حتّى بعد أن طعنوا أنفسهم وزايدوا على بعضهم البعض في مسرحية سمجة تسلّلوا إلى ركحها كالسّراق من أبواب فرعية ليست الأبواب المشرعة التي ألفتهم...
والمواطنون لن ينسوا أن لا أحد من هؤلاء النائحين المتباكين المردّدين لشعارات ليست من قاموسهم النوفمبري، والهابطين إلى التظاهر الذي منعوه منعا باتا على شعبنا إلاّ متى تعلّق الأمر بمسرحيات ولاء وتأييد مدفوعة الأجر والمنافع والمزايا مسبقا، المواطنون لن ينسوا أبدا أن لا أحد منهم وقف حتّى بعد 14 جانفي 2011 ليعلن على الملإ تضامنه مع المدّ الشعبي وتبرّأه من السارق الناهب القامع المتعجرف الذي هرب وتركهم يتامى وثكالى منه، وندمه أو أسفه على أنه أخطأ من تلقاء نفسه أو لأنّه غولط ... لا أحد منهم تصدّى لإخوانه في تجمّعه الذين واصلوا التدخّل بالهراوات والحرق وحتّى بالرّصاص، ولا فضح إخوانه الذين تآمروا ومازالوا يتآمرون في الجهات والبلديات بتجنيد من لا يصحّ تجنيد هم وبمواصلة الاستفزاز والابتزاز وتلغيم الأوضاع الاجتماعية والانتخابات القادمة وتشويه المشهد الحضري وزرع الفتنة ... لا أحد منهم راجع نفسه وخياراته وقدّم نقدا ذاتيا واضحا وصريحا... لا أحد منهم برهن بكلمة صادقة أو فعل خيّر أنّه مع طيّ صفحة النظام البائس، ومع دفن خزعبلاته الحزبية والسياسية التي كبّلت بلادنا ومنعتها من النماء والنموّ الحقيقيين... ولا أحد منهم تعدّى ترّهات الادّعاء بأنّه لم يكن شريكا أو متواطئا أو متخاذلا أو حتّى داريا بما كان يجري...
والشعب –شعبنا الذي تجاوزنا جميعا- لن ينخدع بالعويل والنحيب والدموع المفتعلة، فهو على اتّساع صدره وسماحة أخلاقه وتعاليه على المسيئين، وهو المستعدّ أصلا ودون أن يطلب منه ذلك طالب، للمسامحة والتجاوز، يريد أوّلا أن يحدّد الجميع مواقعهم الحقيقية بدون مناورة ولا خداع ولا بهتان، وأن يعترف المجرمون بجرائمهم، والمستكرشون بما نهبوه، والفاسدون بما أفسدوه والظالمون بآيات ظلمهم والذين كانوا مخدوعين بمن خدعهم، والضعفاء بأنّهم ضعفوا أو طمعوا أو هانوا... ثمّ يسامحهم ويغفر لهم.
صحيح أنه كان في التجمّع –وحتى في المواقع الأولى منه - وطنيون وشرفاء ونظاف... وأنا موظف الدولة الذي عمل مع عديد المسؤولين الإداريين والسياسيين لا يمكنني إلا أن أشهد بذلك...
لكنّني أخجل الآن من ذكر هؤلاء لأنّهم لم يتقدّموا من تلقاء أنفسهم ليظهروا صفاتهم تلك ويميّزوا أنفسهم زملائهم الذين انصاعوا وانقادوا أو تمّ ترهيبهم أو ترغيبهم أو شراء ذممهم... أخجل منهم لأنّني أحلّ محلّهم، وأخجل لهم لأنّهم لا يقدرون على تجاوز الحقّ والصحيح...
وأنا المواطن الذي اعترف على الملإ بخجله. بل وحتّى بشعوره بالخزي، لأنه لم يبذل كل ما في وسعه حتّى لا تعيش تونسنا الجميلة ما عاشته من إذلال وهوان، ولأنّه وإن حرص على النقاوة ودفع من أجل ذلك ما دفع فهو كثيرا ما تعايش مع الباغين وجاورهم ولم يدفعهم عن صدر هذا الوطن...
أنا المواطن الذي طلب الغفران على الملإ وكتابة من هذا الشباب الذي سخرنا منه ففاجأنا واستبلهناه فتجاوزنا واستضعفناه فصنع لنا فجرا جديدا، أنا المواطن الذي يعتقد أنّه وإن لم يصغر ولم يهن ولم يتآمر ولم ينصع ولم يأتمر، فإنّه على أي حال لم يؤدّ كل ما كان مطلوبا منه أن يؤدّيه لهذا الوطن...أنا لا أقدر على فهم هؤلاء الذين كانوا ينضوون تحت تجمّع لم يجمّع إلاّ الفاسقين والسارقين والبغاة والمصطفّين المصفّقين الأتباع تجرّأ على نعت نفسه بالديمقراطيّ وهو العسف والميز والقمع والمنع والتفرّد والعجرفة ليس إلاّ ثمّ أضاف إلى اسمه الدستور وهو من حوّل دستور البلاد إلى خرقة، واستحلّ دماء الشهداء شرابا للدكتاتور وحريمه وقوّاديه... لا أقدر على أن أجد لهم مبرّرا أو أن أبتدع لهم عذرا... ولا أفهم كيف أنهم –هم الذين أقصوا الناس جميعهم، هم الذين أقصوا بلادنا عن مستقبلها، هم الذين داسوا المبادئ والقيم والأخلاق والمواطنة- يجرؤون الآن على التباكي نائحين : "لا للإقصاء" و "تونس للجميع"...
نعم أنا ضدّ الإقصاء ومع أن يسود الوفاق، ومع أن تينع ألف زهرة وتشعّ كلّ الأطياف وكلّ الألوان... ولكنّ الوقوف ضدّ منع التجمّعيين الفاسدين والمفسدين –أيّا كانت مستويات مسؤوليتهم – لا يصحّ حتّى يعترفوا بذنوبهم ويقرّوا بأفعالهم الخسيسة ويعيدوا إلى الشعب ما ابتزّوه ونهبوه ويعتذروا عن جرائمهم بأنواعها، ويمسحوا دموع ضحاياهم ويسخّروا أنفسهم تسخيرا للعمل التطوّعي حيث يمكنهم العمل دون ادّعاء قدرة أو خبرة أو ريادة.
كما أنّ إسناد التجمّعيين الإطارات الذين تحمّلوا مسؤوليات أولى لكنّهم لم يغرقوا في الفساد ولم يزوّروا لا يمكن أن يصحّ إلاّ متى تبرّؤوا من تجمّعهم وأزاحوه تماما عن الديمقراطية والدستور وصدر هذا الوطن المتعالي على جراحه...
الغفران والمسامحة والتجاوز قيم راسخة في شعبنا...
لكنّ شعبنا يرنو إلى الاعتراف والإقرار وإبداء الحقيقة ليغفر ويسامح.
وتونس للجميع وشعبها لا يقصي أحدا... لكنّ تونس لم تعد للنّهابين والطغاة وضعاف الأنفس، وشعبها لم يعد غرّا يغرّر.
فلتعتذروا أوّلا !
الأحد 17 أفريل 2011
صحيح ورائع ومفيد
RépondreSupprimerصحيح و رائع و مفيد.
RépondreSupprimer