سواء كانت الثورة "ثورة الشباب"، أو "ثورة شباب الإنترنات والفايسبوك" أو "ثورة أصحاب الشهادات المعطّلين"، أو "ثورة الجهات المهمّشة"، أو "ثورة الكرامة" فإنّها في جميع الحالات تخدم مصالح جميع الطبقات والفئات الاجتماعية دون استثناء.
والثورة من هذا المنظور تخدم فئات المستثمرين وأصحاب المشاريع ورؤوس الأموال. فالنظام البائد المتهالك قد عطّل دواليب الاقتصاد، وأخلّ بقوانين المنافسة، وابتزّ كلّ ناجح، وتسلّل إلى كلّ مشروع، واندسّ في جميع أجهزة الدّولة التشريعية والمؤسساتية والإدارية، وتجبّر على كلّ معتزّ بما بعثه من عدم أو ورثه أبا عن جدّ، ولم يترك لأحد سبيلا لأن يؤسّس ويبعث ويشغِّل وينجح، وزاحم الكبار والمتوسطين والصّغار جميعا بل ابتزّهم وأزاحهم وخنقهم وسدّ عليهم السّبل بدون وجه حقّ ولو كان حقّ السوق الحرّة الذي تقيّده هو الآخر قواعد معلومة ضرب بها عرض الخلاء...
كما أن الثورة من هذا المنظور تخدم أعوان الدّولة سواء كانوا في الوظيفة العمومية بمختلف قطاعاتها أو في مؤسسات الدّولة... فهؤلاء قد كبّلهم النظام المنهار بكلبشات الطاعة العمياء، ومطرقة التعليمات الهوجاء، وعصا التحزّب أو التجمّع رغم الأنف والأهواء، وروّضهم على انفصام الشخصية وازدواجية التصرّف : خطاب موضوعي يستند إلى قوانين وقواعد وتراتيب ومعايير مقبولة عموما وفعل يرتكز على ساقين الصلف والجشع والتجبّر أولاهما، والطمع والخنوع والخوف ثانيتهما.
كما أن هذه الثورة تخدم أعوان الدّولة من حيث أنّها تفتح أمامهم أبوابا أوصدها الفساد الفاسِدُ والمفسِدُ = أبواب الترقيات والخطط التي احتكرها النّظام لتابعيه الفالحين المفلحين في خدمة الأسياد قدامى وجددا، والمتمسّحين على كل الأعتاب طمعا أو لهثا وراء سراب وجاهة مغلوطة، والفاشلين فكرا وخُلقاً وتسييرا ؛ وأبواب المراكز العليا التي تشبّث بها العواجيز العجّز العاجزون عن غير الاستماتة في إرضاء السلطان ونهب الملك العام.
ثمّ إنّ الثورة من هذا المنظور قد حرّرت طاقات الإنتاج والخدمات وهي ستوفّر لها المناخ المناسب والتمويلات اللازمة ومقوّمات الانطلاق التي عرقلتها المحسوبية ورصد الأموال-قروضا وهبات ومساعدات- والحوافز –تمويلية وجبائية وعقارية وغيرها- لغير أهلها، وتوزيعها لا وفقا لقواعد الاستثمار المقنّنة والتصرّف السليم بل بما يرضي التعليمات الشقيّة والأطماع البلهاء وبما يقرّب من مركز حلقة النّهب لعلّها تكافئ بفتات...
وممّن أفادتهم الثّورة وخدمتهم دون أن يكون لهم يد فيها، بل وهم قد عملوا –وإن بأمر- على تعطيلها، تلك القوى التي سخّرها الطغيان للتتبّع والتنصّت وللإيقاف والعسف والتنكيل وللاستنطاق والتعذيب، وللأحكام المبنية على التزوير والبهتان، وللحبس الظالم وقطع الأرزاق وترهيب أصحاب الرأي المخالف ورافضي الاصطفاف والصائمين عن التصفيق... فهذه القوى منها من استفاد من الثورة حتى ماديا، وكلّها أطلق سراحها من غياهب الأوامر والتعليمات، وخوف "المعلّم" والرؤساء، وكلّها انفتح أمامها درب العودة إلى خدمة الوطن والمواطن، والانعتاق من ربقة الاستعباد وتسخير المصلحة العامة وقدرات الوطن للمصالح الضيّقة والنوايا الخبيثة والمطامع الرذلة.
والثورة من هذا المنظور تخدم كلّ من كان مكبّلا ومعطّلا لخوف أو رهبة أو لانسداد أفق وعجز عن التمييز أو إعاقة إرادة، أو ضبابية رؤية.
ولأنّ الأمر على هذه الصّورة وهذا الواقع فإنّني لم أفهم كيف ندر المستثمرون والباعثون وأصحاب المشاريع المحليون الذين تجرؤوا على الإصداع بالحقّ بأن يشرعوا في التنفّس وفقا لرغبات رئاتهم، والذين فكّوا عقد ألسنتهم، والذين شمّروا عن سواعدهم، والذين تنادوا إلى العمل الجادّ، والذين سخّروا مواردهم التي كانت حبيسة في صناديقها وصررها ليؤسسوا وينتجوا ويشغُّلوا، ولا كيف شحّت مبادرات المسؤولين الكبار والمتهيئين ليكبروا بالإدارة العمومية فلم نر إلاّ ما يجب البحث عنه بالميكروسكوب في كلّ ما يهمّ إعادة بناء الهياكل والمؤسسات على أسس قويمة، وقطع دابر الفساد الذي شرّش في كلّ الأنشطة : صفقات ومعاملات وانتدابات وترقيات، وفي كلّ ما يتعلّق باسترداد قيمة العمل والبذل –فعلا لا قولا- واستبعاد الفاسدين والعجزة وضعاف الأنفس، وإطلاق طاقات الشباب، ومجازاة الكفاءة...
غريب أمرنا في هذا البلد : نخضع ونطأطئ الرأس ونقبل بالهوان... ولمّا يتسارع التّاريخ وتهزّنا الأحداث، تخفق أفئدتنا مجدّدا لكن لوهلة فقط، ثم نعود إلى الترقّب بعنوان الحذر، ولا نتقدّم خطوة رغم انكسار القيود خشية أن تميد الأرض تحت أقدامنا دون سابق إنذار أو حتّى نتفادى شرّ من هدّنا شرّهم إذ أنّهم قد يسترجعون مراكزهم، أو لأنّنا هلعون من الحريّة التي لم نعاشرها من قبل، أو لأنّنا تحنّطنا في انتظاريتنا وتحوّلنا آلات بكماء وصمّاء لا عقل لها ولا إرادة لا تتحرّك إلاّ بفعل فاعل من غيرها...
غريب أمرنا في هذا البلد : نهرع إلى المكاسب السهلة، ونتكالب على المنافع حتى ونحن لا نحتاجها، ونتصارع على المواقع والمناصب خصوصا متى كنّا لا نستأهلها، ونهرب حتّى من ظلّنا، وترتعد فرائصنا حتى لمجرّد أن نسمع خفقات قلوبنا ونغمات نفسنا تنتظم بغير أمر وتتوثّب للاستجابة لحرّية تراودها...
غريب أمرنا لكنّ، مستقبلا الأزرق السماوي أفقه، وقوس القزح ألوانه، وريح الورد والياسمين والفلّ شذاه ينفتح لأبنائنا وبناتنا برغم طمعنا وهلعنا وخوفنا وحذرنا وخنوعنا وانكسارنا : فالفاعلون الأساسيون في الثورة - "الشباب " و"شباب الإنترنات والفايسبوك" و "أصحاب الشهادات المعطّلون" و "الجهات المهمّشة " و"عشّاق الكرامة"، قد قلبوا الموازين دون رجعة، وتقمّصوا الحريّة فانبثّت في شرايينهم، وعانقوا الشمس فاستهوتهم إلى الأبد، وطلّقوا الخوف فلم يعودوا يخشون "غازا ولا خراطيش"، واحتدّ ذكاؤهم فلم تعد تضلّلهم لا الكلمات العسلية ولا المناورات المخملية ولا الوعود الجوفاء ولا ألاعيب الثورة المضادّة.
شباب الثورة شربوا أنخاب الاستشهاد والمجد، واستباحوا قلاع الجلادين وعرّوا سلاطين آخر الزمان، وخفقت أفئدتهم بوتائر الزمن الجديد، وانتظمت أنفاسهم على إيقاع التآخي والتمرّد والتّوق إلى الأجمل...
شباب الثورة عرفوا كيف لا تنقطع الصّلات بينهم، وتنادوا إلى النصر المبين وكلّما انفضّ لهم لقاءٌ ودّع بعضهم بعضا على أنغام : "إن عادوا عدنا !"
27 أفريل 2011