كلمتي أثناء التكريم :
أنا سعيدة
فرغم أنّني مررت عبر بوابتي شرطة و قمارق فأنا في وطني,في بلدي و بين شعبي.فمغربنا أرض واحدة:هكذا صنعتها الطبيعة! و شعبنا شعب واحد: هكذا هو ثقافياو فكريا و عاطفيا و حضاريا و مصلحيا و من حيث المستقبل و منذ القدم!
هذا ما أحسسته أمس و أنا أصل الى هنا . و هذا ما أحسسته خلال زياراتي السابقة و خصوصا لما جئت المغرب و أنا لم أتمم السنة العاشرة من عمريّ و أنا أحسّني بين أهلي و مع رفاقي و إخوتي.
فعلاقتي بمنظّمة العفو الدولية علاقة أسرية و متينة و ضاربة بجذورها في طفولتي بل حتى قبل طفولتي.
و لأنّني جذلانة و سعيدة و أشعر أنّ بيني و بينكم أواصر حميمية فانّني أستسمحكم في أن أقضّ عليكم شيئا مما ربطني و يربطني بامنستي انترناشيونل!
امنستي سبقتني الى أسرتي و الى دارنا .سبقتني بشعاراتها و كتبها و تقاريرها و لوحاتها و بملصقاتها ...حتى أنّ سريري و انا رضيعة كانت تضيئه ملصقات الشمعة التي تضيء من وراء الاسلاك الشائكة : شمعة امنستي الشامخة!
و ترعرعت مع امنستي, فوالدي كان واحدا من المؤسسين . وخلال السنين التي تعلّمت فيها الحبو فالمشي و الكلام و بدات تعلّم الراءة و الكتابة كان بيتنا الصغير كثيرا ما يضمّ اجتماعات مازلت أراها,لا أدري ألأنّها رسخت في ذاكرتي اليافعة منذ تلكم الأيّام أم لأنّي شهدت أمثالها فيما بعد أو رأيت بعضا من صورها. و جعوني أقول لكم أنّ هذه الاجتماعات كانت غير قانونية و غير مرخّص فيها و أنّ مجموعات امنستي كانت, حينها, تعمل رغم حرمانها من الترخيص.
و مازلت أحتفظ عن تلكم الأيّام بصورتين رسختا في و جداني :
ـ الصورة الأولى أرى فيها والدي و هو يغادر الاجتماع و البيت من حين لاخر و اتبعه فاراه يتفقّد سيارات زوّارنا و أرى غرباء يرقبون ما يجري في بيتنا.
الصورة الثانية أرى فيها بيتنا الصغير مساحة,الرحب بل الشاسع لكلّ قاصديه, يتاخى فيه النساء والرجال, الشيوخ و الشبابو الأطفال, التونسيون و التونسيات و غير التونسيين و غير التونسيات, و العلمانيون و الائكيون و المسلمون و بعض ممّن ظلّوا في البلاد من يهودنا و مسيحيون و مسيحيات أكّد لي والدي أنّ بعضهم , بعضهنّ كانوا رهباناـ راهبات يعملون في تونس تطوّعا و كانوا من أوّل المبادرين بتكوبن فرق تابعة لامنستي لندن مباشرة .
ولا أخال الاّ أنّني انّما ورثت عن اجتماعات امنستي هذه احساسي الطبيعي بأنّني أنتمي الى هذا العالم كلّه وواحدة من الانسانية جمعاء, و أنّ لا فرق بين الذكر و الانثى ,و أنّ الحرية حقّ للجميع , ورفض العنف , و قبول الاختلاف و التنوّع.
بعد ذلك حصل الفرع التونسي لمنظّمة العفو الدولية على رخصة قانونية. و نحن في أسرتي , نحتفظ بطرفة أضاءت احتفال الفرع بالرخصة و أوّل اجتماع علنيّ له, طرفة طلع بها المناضل و السينمائيّ النوري بوزيد اذ قال ما معناه و هو يتحدّث عن الجون :" لولا امنستي انترناشيونل لغيّبنا النسيان . و لولا لبسستي ناشيونال لقتلنا الجوع". و لمن لا يعرف أقول أنّ " البسيسة " هي أكلة شعبية تصنع من مسحوق القمح أو الشعير أو العدس يخلط ببعض الأعشاب العطرية و يشرب بعد خلطه بزيت الزيتون و بالماء أو بأحدهما. و لأنّه قابل للحفظ طويلا , و يشبع , و رخيص الثمن , فهو يتصدّر الزاد الذي تحمله العائلات لابنائها المعتقلين
!
و خلال تلك الأعوام بلغت مسامعي أحاديث كثيرة عن التعذيب و مقاومته, و عن الحكم بالاعدام و الغائه, و عن حرية التعبير و قدسيتها, و عن حرية المعتقد و الضمير و تاكّد الدفاع عنهما, و عن نبذ العنف و الحقّ في المقاومة,
و انّني أعتقد صادقة أنّ تلكم الأعوام هي التي صنعتني , و هي التي جعلت حياتي تكون على ماهي عليه, و خياراتي تصطبغ بايمان لا متناه بالحريات الفردية و الجماعية , و بانسانية الانسان , و بالعدل و المساواة و الكرامة للجميع بلا ميز بين الجنسين و لا فوارق بين الناس بسبب معتقداتهم أو ثقافتهم أو عرقهم أو قومياتهم.
أي أنّني الى حدّ كبير, بنت امنستي بأتمّ معنى الكلمة . بنت امنستي الفرع التونسي و بنت مناضلي امنستي في العالم كلّه , و بنت امنستي انترناشيونل كخيارات و مبادئ و نضالات و بنية تنظيمية طريفة و منفتحة!
أنا بنتكم و أختكم و رفيقتكم و أمّ للصغار منكم
بهذه الحكايات التي قصصتها عليكم تفهمون لماذا أنا جذلانة و منشرحة رغم أنّني الان اتذكّر مناضلين من مؤسسي الفرع التونسي لمنظمة العفو الدولية كانا من بين أولئك الذين طبعوا طفولتي و غادرانا قبل الاوان : أحمد عثماني الذي قصفه حادث سير بليد هنا في المغرب و هو يشارك في ملتقى نظّم في اطار الاحتفالات باليوم العالمي لحقوق الانسان , و نور الدين بن خضر المناضل الكبير و الناشر الذي افلح في تمتين روابط التعاون بين الناشرين التونسيين و المغاربة
و انا لا اشك و لو لبرهة أو قدر ذرّة في أنّ هذين الرفيقين لو كانت الارواح لا نمّحي و تنزل من حيث تستقرّ , هما هنا و جذلانان لجذلي و منشرحان بانشراحي.فالاوّل كانت البسمة لا تفارق محيّاه حتى في احلك الساعات . و الثاني ماتزال ضحكاته حية لدى كلّ من عرفوه !
لأنّني جذلانة و سعيدة و بين أهلي و رفاقي قصصت كلّ هذا و أطنبت فيه.
و انّي لممنونة لكم ـ لكنّ جميعا على هذه الفرصة التي منحتموني ايّاها . و أقسم أنّني لم أفرح يوما أكثر ممّا أنا فرحانة هذا اليوم ... نعم فرحت حقّا بوضعي على القائمة النهائية للمرّشحين لجائزة نوبل للسلام 2011, و فرحت بالجوائز الدولية التي وهبتها في فرنسا و ايطاليا و السويد و ألمانيا و ايرلاندا وفرحت حقّا بالجائزة الدولية " شين ماك برايد" للسلام 2012 ... لكنّ فرحي هذا اليوم لا يعادله فرح إلاّ ربذما ـ بسمات الناس العاديين و تحياتهم و مخاطبتهم لي في الشارع رغم أنّني ليست لي بهم سابق معرفة , و دعواتهم الطيبة لي و تكريمكم لي له نكهة خاصة و اثر استثنائيّ في وجداني.
بقي لي رغم الاطالة ـ أن أبيّ انتظارات بعضكم و أقول شيئا عن الوضع في تونس . رغم أنّني أعلم أنّ أغلبكم تتابعون تطوّرات الامور عندنا كلّ يوم .
أنا أحسّ و أعتقد و على قناعة أنّ وضعنا سيّئ جدّا و يزداد كلّ يوم سوءا ... التعذيب مازال يمارس باعتراف الجميع حتى بعض من هم في السلطة ... و المساواة بين الجنسين محلّ مراجعة ... و الحريات يبتغى لا اشاعتها بل تقييدها بقوانين ...
و محاسبة الفاسدين ماليا و سياسيا لم تنطلق ... و العدالة الانتقالية بأوجهها جميعا ما تزال مجرّد شعار ... و الجهلوت يحاصروننا من كلّ مكان: هذا يدعو لختان البنات , و ذاك يكفّر الناس و يدعو الى قتلهم , و الاخر ينادي بقطع أعضاء المعارضين أو المنتفضين من خلاف ...و العنف ضدّ المراة و ضدّ الراي المخالف و ضدّ من لا يحبّه أولئك الذين انقضّوا على السلطة غدا ممارسة يومية أنشأت لها الميليشيات و الجهزة الموازية لأجهزة الدولة ...و حتى أهمّ المكتسبات التي حقّقتها الثورة : حرية التعبير غدت مهدّدة : فالقنوات العمومية غدت أو تكاد تغدو قنوات الحكومة و الحزب الحاكم , و الأصوات المشاكسة و الحرّة تحاكم أو تهدّد بالضرب و حتى بالتلويح بالقتل , و المبدعون بأصنافهم و تخصّصاتهم يتعرّضون للاهانة و الترويع و السجن... و تراثنا الثقافي و الديني و التاريخي يهدم و يحرق... و نقاباتنا العمالية تخوّن و يعتدى على حرماتها ... و رسّامونا ـ و بالذات منهم أولئك الذين أضاؤوا جدراننا البائسة الكئيبة يلاحقون كما هو الحال مع مجموعة " زواولة بقابس...
لمنّ كلّ هذا لا يعني ـ في نظري أنّ ثورتنا قد انحسرت أو ضاعت ...كلّ ما في الأمر أنّ عوامل و فاعلين تضافرت جهودهم ليعطّلوا مسيرتنا فأصبحنا في حالة جزر ... لكن بعد الجزر مدّ, بعد الجزر مدّو مدّ و مدّ ... هذا ما تؤكّده كل ّ يوم نضالات مجتمعنا المدني في العاصمة و في الجهات الداخلية ,و هذا ما تثبته مداومة نساءنا و يقظتهنّ , و هذا ما تبرهن عليه ابداعات شبابنا و شاباتنا فنيا و بالاحتجاجات و التظاهر و قهر الخوف و التشبّث البيّن بنبذ العنف و المقاومة السلمية.
اعذروني على الاطالة , و أرجو أن لا أكون أثقلت عليكم . و ها أنا ذي فأقول : " نحن في تونس كما في المغرب , مازلنا نحتاج الى امنستي انترناشيونل و لمبادئ أمنستي انترناشيونل و لنضالات امنستي انترناشيونل الناجعة و الفعّالة دائما !"
و أختم بمقطع يحضرني الان من قصيد للشاعر الفلسطيني دحبور . يقول المقطع :
" و يا جمل المحامل سر بنا
دربنا شوك
و ما بغير ضرسك يطحن الشوك !"
و أنادي :" ياجمال المحامل , يا فتياننا و شاباتنا , يا من جعلتم من الضعف قوّة و من الخوف دافعا و من البؤس ثورة, يا مناضلينا في المجتمع المدني ! في امنستي و منظمات حقوق الانسان و على الشبكة العنكبوتية و في كلّ الجمعيات و الهيئات و الحركات : أنتم جمال المحامل , و لقد طحنتم بعد من أشواك الطريق كثيرا...فاستمرّوا ... استمرّوا ... الدرب وعر و فيه انعراجات و التواءات ... لكنّه سالك و موصل !
وشكرا
تقرير القناة المغربية الثانية عن تكريم ربيعة الناصري و لينا بن مهني
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire